اهداء
إلى سيدة الورد..تلك التى لا اعرفها ولا تعرفنى ولكنها الهمتني هذه القصة
لفترات طويلة ظل حقل العم يحيى حديث قريتنا وشغلها الشاغل ..فما يحدث فيه كان اشبه بالسحر وبأساطير الأقدمين... ففي ذلك الركن القصي من حقله كان يزرع احواض الورد ..كان ورده عجيبا مدهشا يخطف اعين الناظرين..وكان يبعيه ويستعين بالنقود القليلة التى تأتي من ورائه على صعوبات الحياة ..إلا أن ما حدث في صباح ذلك اليوم غير الحال تماما ..ذهب كعادته الي ركن الورد ليقطفه ويذهب لبيعه فوجئ به غير موجود ووجد بدلا منه عملات ذهبية - لم يكن يعرفها أو يسمع بها إلا في حكايا جدته التى رحلت منذ امد بعيد- تتراقص بين احضان الأرض.. فوجيء في البداية واندهش ولكن سحر الذهب انساه كل شيئ .. وبدأ الأمر يتكرر في كل مرة يذهب فيها ليقطف الورد ..الغريب أن عملات الذهب كانت تتحول لشوك لداغ كلما حاول احدا غيره أن يلمسها فتسيل دماؤه نهرا يجري أمام عينيه ، ولكن في يد العم يحيى فقط كانت تتحول لعروس تزغرد وتتراقص فرحا يوم زفافها.. بمرور الوقت وتكراره بدأت الحيرة تدب في قلب العم يحيى وبدأ يسأل الاف الاسئلة ولا مجيب .. حتى عندما قرر أن يبيت فى الأرض ليلة القطف ليعرف السر كان السيناريو نفسه يحدث كل مرة ..قبيل الفجر كان يشعر أن شخصا ما ..ربما شبحا أو انسانا مرتديا قبعة الاخفاء ينثر شيئا في وجهه ..احيانا يكون له ملمس الحرير واحيانا نغز الابر الرفيق ليجد نفسه غارقا في النوم لا يوقظه سوى لهيب اشعة الشمس أو احد جيرانه وهو عائدا من صلاة الفجر..يستيقظ فيجد الورد قد اختفى وحل بدلا منه عملات الذهب مغروزة في الارض ,يسأل من حوله هل رأى احدا منكم شيئ فتزيدهم اجابتهم حيرة فوق حيرته..
بمرور الايام انقطع العم يحيى عن الحياة ولم يعد يشغله شيئ سوى ذلك الامر فكان يرى ماشيا في شوارع البلدة وازقتها كمجذوب حكايا راوي بلدتنا يسأل الرائح والغادي عن آخذ الورد, أو جالسا في المقهى يسال مريديه, وعندما ضاق ذرعا بالناس ومن معاملته كملبوس يتملكه عفريت يأخذ ورده انعزل عن الدنيا وجلس في بيته, ولكن الناس ايضا كانوا يرونه من شباك البيت يقطع الحجرة ذهابا ومجيئ سائلا عن سر آخذ الورد, وإن كان عفريتا مثلما يقال لماذا لا يريه نفسه ولو لمرة واحدة.. مرة واحده فقط ليس اكثر.. وظل هكذا فترة طويلة حتى جفت الأرض وانشقت بعد أن كانت مبهجة مزدانة تسر الناظرين رغم وجودها في اطراف البلدة. حتى جاء ذلك اليوم الذي انقلب فيه الحال فبينما كان يتناول افطاره ظهرت له فجاة امرأة في منتصف الاربعينات ..بيضاء كقمر ذابل, طويلة كنخلة محنية..تبدو وجنتيها كوردتين حزينتين .وينسدل شعرها الاصفر على كتفيها كحرير متقصف رافضا هو الآخر التأنق والظهور مشاركا الورد في حزنه, أما عينيها الاخضروين فكانتا منطفئتين كأخضر ارضه المنسية..عندما راها تملكه الذعر حتى أن كوب الشاي سقط من يده ولم يلق له بالا, هب واقفا سألها والخوف ينطق من عينيه:
- من انتِِِِ؟
حاولت أن تبدد خوفه فاقتربت منه وربتت مطمئنة على كتفه:
- اهدأ لماذا انت خائف مني هكذا؟
ابعد يدها وابتعد اكثر حتى صار ظهره منغرقا في حائط داره.. حاول أن يلم شتات نفسه, وامتدت يده لتمسح عرقا انفرط من اخاديد جبينه وقال بصوت حاول ان يكون هادئا- ولكنه لم يعرف-:
- من انتِ؟ولماذا جئت غلى هنا؟
حدقت النظر في عينيه واقتربت منه اكثر:
- حقا ايهمك ذلك؟
- رد متحديا :
- بالتاكيد.
- أنا السر .. أنا سيدة الورد.
- حسنا انتِ التى دوختني طوال هذا الوقت.
قالت بلغة معاتبة:
- اجبنى لماذا اهلمت الورد؟
- لاني كنت اريد أن اعرف.
- حسنا وانت الأن عرفت.
- لم اعرف كل شيئ بعد.
قال مستأكدة:
- حقا اتريد أن تعرف؟
قال والتحدي يملأ عينيه:
- لا اريد إلا أن اعرف.
- حسنا هيا معي.
اخذته من يده وطارا بعيدا اخترقا سماوات مفتوحة وعدا ابحرا وجبالا حتى نزلا في مكان لا يعرف ماهو ..كان اشبه بالجنة ..انهارا تجري واشجار مثمرة وشمس صبوح وهناك في احد الأركان كان يجلس شابا جميل جميل ..يلعب من حوله ثلاث اطفال بنتان وولد فى عمر زهوره .. لمح في ايديهم ما بدا حلا للغز كانا يحملان ورد حديقته ولكنه كان زابلا يوشك على الموت , ما ان لمحو المرأة حتى جرو نحوها وارتمو بين احضانها وسألوها بلهفة:
- امي اين الورد الجديد؟
وسألته عينيها هل بدأت الأن الفهم؟ ورد لا.
اشارت إلى ذلك الشاب الجميل الجميل:
هذا زوجي (حسن) وهؤلاء اولادي..منذ عام تقريبا كنا نركب ذاهبين الي رحلة وفي الطريق مررنا أمام حقلك اعجب الاولاد بالورد وطلبو مني أن أتي لهم منه ..وما ان نزلت من السيارة حتى جائت حافلة كبيرة وصدمتها..في لحظة واحدة فقدت الجميع ..ذهبو جميعا وتركوني وحدي..ومن وقتها وأنا كل يوم أتي لهم بالورد من عندك فقد اصبح فرحتهم وبهجتهم ولا تسل كيف يكون القاتل فرحة القتيل وبهجته, ولكن الحزن بدأ يسكنهم بعد أن توقفت انت عن زراعة الأرض وانشغلت بما يأتي وكيف يأتي ولم تعطي لنفسك فرصة ان تنشغل بذهب الورد.
اجاب والوجوم يتملكه:
- يا كل ذلك حدث دون ان ادري؟
- دون ان تفكر في الاستمتاع بما في يدك
في تلك اللحظة اقترب الصغير منها :
- ماما من هذا؟
رد وهو يضمه إليه:
- انا بائع الورد.
بعدها اصبح العم يحيى مرة اخرى حديثا للبلدة بعد أن تغير حاله من مجرد مزارع بسيط يعيش على الكفاف لاحد اكبر اغنياء القرية, وتحول كوخه الصغير إلي قصر واسع تتوسطه حديقة غناء .إلا أن السؤال الذي حيرهم ولم يجدو له اجابة لماذا يصر العم يحيى على زراعة ركن الورد بنفسه رغم وجود مزارعين كثيرون يعملون في ارضه.